L'ULS

قدّاس افتتاح السنة الجامعيّة في الحكمة

mardi 31 oct. 2017
قدّاس افتتاح السنة الجامعيّة في الحكمة
قدّاس افتتاح السنة الجامعيّة في الحكمة
قدّاس افتتاح السنة الجامعيّة في الحكمة
قدّاس افتتاح السنة الجامعيّة في الحكمة
قدّاس افتتاح السنة الجامعيّة في الحكمة
قدّاس افتتاح السنة الجامعيّة في الحكمة
قدّاس افتتاح السنة الجامعيّة في الحكمة
Partager

ترأس قدّاس إفتتاح السنة الجامعيّة في الحكمة المطران بولس مطر:


ما يَسُودُ الشَّرقَ هو مأساةٌ حضاريَّةٌ كُبرَى قبلَ أن يَكونَ نَكَساتٍ سياسيَّةً وعلى الجامعاتِ أن تَتعاونَ كلُّها كي تَسيرَ قُدُمًا نَحوَ الإقرارِ بالآخر والمُواطنةِ معهُ في المُساوَاةِ

 

لبّت عائلة جامعة الحكمة دعوة رئيسها الخوري خليل شلفون للإحتفال مع رئيس أساقفة بيروت وليّ الجامعة المطران بولس مطر بقدّاس افتتاح السنة الجامعة، يحيط به الخوري شلفون ونائباه الخوري دومينيك لبكي والخوري ريشارد أبي صالح وعميد كليّة العلوم الكنسيّة الخوري طانيوس خليل وبمشاركة الرئيس السابق للجامعة المونسنيور كميل مبارك ولفيف من الكهنة وعمداء الكليات وأعضاء الهيئتين التعليميّة والإداريّة وقدامى وطلّاب. وبعد الإنجيل المقدّس ألقى المطران مطر عظة جاء فيها:

 

أيُّها الأحبَّاء،

 

إنَّهُ تقليدٌ في الكنيسةِ، وهي أمُّ الجامعاتِ منذُ أكثر من ألفِ عامٍ، يَرسمُ بأن تُفتَتَحَ السَّنةُ الأكاديميَّةُ الجديدةُ بقدَّاسٍ إلهيٍّ يُدعَى بعامَّةٍ قدَّاسَ الرُّوحِ القُدُس. ونحنُ في جامعتِنَا الحِكمَويَّةِ العزيزةِ، إذْ نَلتزمُ هذا التَّقليدَ، نَتلمَّسُ في كلِّ مرَّةٍ أَبعادَهُ وَمَعَانِيهِ، لنُجدِّدَ نَظرتَنا إلى الحقيقةِ بأنَّها لا تَنبعُ من ذَاتِنَا، مهما كانت ذَاتُنَا ثَمينةً، بلْ من قلبِ اللهِ مَصدرِ كلِّ حقٍّ وخيرٍ ونعمةٍ وجمالٍ. فَنَنحَنِي إجلالاً لِلخالِقِ وإقرارًا بهِ فَرِحِينَ باستماعِنَا إلى السيِّدِ المسيحِ يقولُ لنا وَللعالَمِ، «أنا هو الطَّريقُ والحقُّ والحياةُ».

 

ذلك أنَّ السفسطائيَّةَ القديمةَ الَّتي رَاجَت عندَ الإغريق في الزَّمنِ الغابِرِ، ما زَالَت حَيَّةً إلى الآنَ، وهي تَجربةٌ تُواجِهُ الإنسانَ مُوَسوِسةً لهُ بأنَّه هُو اللهُ وأنَّه هُو مَصدرُ الحقِّ ولا مَصدرَ لِلحقِّ وللحقيقةِ سِوَاه. والَّذين كانوا يدَّعُونَ هكذا بأنَّ الإنسانَ هُو وحدُه مقياسُ الحقيقةِ، ما كانُوا يَذهبونَ بأفكارهِمِ هذه نَحوَ الإنسانِ المُطلقِ أو المثاليِّ، بلْ نحوَ كلِّ إنسانٍ فردٍ كائنًا مَن كانَ، ضَارِبِينَ الحقَّ بالنِّسبيَّةِ والاستنسابِ دُونَ أن يَضعُوا لهما قُيُودًا أو حُدُودًا. علمًا بأنَّ في هذا الادِّعاءِ تَبَرُّمًّا بالحقِّ وإطلاقًا للأنانيَّةِ القاتلةِ وتفخيخًا للأرضِ الَّتي تُضيِّعُ به سلامَها وسلامتَها تضييعًا مُشينًا.

 

مِن هنا تبدأُ الحكمةُ وليسَ مِن أَيِّ مُنطلقٍ آخر، فنعترفُ بأنَّ الحقَّ أكبر منَّا وبأنَّ إلهَ الحقِّ هو الَّذي يُنزِلُ قبسَهُ في قلُوبِنَا ويُنيرُ به عُقُولَنا كما يَشدُّ إليه رِحَالَنا، فنصرفَ العُمرَ لا بلْ الدَّهرَ كلَّه للسُّؤالِ عنهُ وللوصولِ إليه، مُدرِكِينَ قَولَ القدِّيسِ الكبيرِ أغسطينس والمُفكِّرِ الإلهيِّ القائل: «لقد خلَقتَنا يا ربُّ لكَ وطبعتَ في قلوبِنا شوقًا لرُؤياكَ وستبقى قلُوبُنا مضطرمةً فلا تعرف الرَّاحةَ إلاَّ فيكَ». هكذا نحنُ في هذا المَسارِ المُباركِ، وعلى صُورةِ هذا القدِّيسِ فإنَّنا نَجدُ بالرَّبِّ فرحًا لا يُوصَفُ، وَهُو فرحُ المعرفةِ الَّذي لا يقلُّ وَزنًا عن فرحِ المحبَّةِ. وَمن شأنِ هذا المَسَارِ أيضًا أن يُوحِّدَ الإنسانيَّةَ كلَّها في سَعيِها إلى ما فيهِ خَيرهَا، وأن نَلتقِي فيه جميعًا مُتَعاضدِينَ مُتَكاتِفينَ. وأنتم تعرفُونَ أكثرَ من سِوَاكُم يا أهلَ الجامعاتِ أنَّ مسارَ الحقيقةِ أو المسارَ نحوَهَا هو مَسارٌ جامعيٌّ بامتيازٍ. إنَّه وَرشةٌ كُبرَى تُنظِّمُها الحياةُ الجامعيَّةُ عن طريقِ الأبحاثِ المتعدِّدةِ، في العلومِ الطبيعيَّةِ والإنسانيَّةِ والاجتماعيَّةِ وُصُولاً إلى الماورائيَّةِ، فَتصبُّ كلُّها ومن جرَّاءِ تَعدُّدِها في معرفةٍ مُوحَّدةٍ للكونِ، كما تُشغلُ العُلماءَ والمعلِّمينَ صُفُوفًا يَتعوَّدُون معها العملَ بالشَّراكةِ وُصُولاً إلى المُشاركةِ في الحياةِ وفي صُنعِ المَصِيرِ.

 

غَيرَ أنَّ دَعوَةَ الإنسانِ لا تَقتصرُ على تَلقِّي المعرفة واستقبالِ الحقيقة وحسب، بلْ هو مَدعوٌّ أيضًا إلى تحقيقِ ما يَبغِي منهُ الخالقُ وهذا ليس بالنَّزرِ اليَسيرِ. فعندما وَضعَ اللهُ آدمَ في الفردَوسِ، أَوكَلَ إليهِ فِلاحةَ الأرضِ وزرعَهَا والاهتمامَ بالكائناتِ كلِّها لِيُكملَ في الخليقةِ عَملَ الخالِقِ. لذلكَ فهُو مُكلَّفٌ بِحمايةِ الأرضِ الَّتي هي بَيتُهُ وبيتُ أقرانِهِ جميعًا. مِن هذا المُنطلَقِ كتبَ قداسةُ البابا فرنسيس رسالةً في أُمُورِ البيئةِ مُحذِّرًا الإنسانَ من قتلِ البيئةِ الحاضِنَةِ لهُ في الأرضِ بِتَحدِّي نَوامِيسِهَا وَتَوازناتِهَا البيولوجيَّةِ فيما هي مَرسُومةٌ لهُ بدقَّةٍ لا مثيلَ لها. ومثلما صارَ الإنسانُ مُكلَّفًا بِشُؤونِ البيئةِ والأرضِ، فقد كلَّفهُ ربُّهُ أيضًا أن يُحقِّقَ ذاتَهُ بحرِّيَّةٍ كاملةٍ لا تَتنافَى مع العقلِ أبدًا. فالإنسانُ مَسؤولٌ عن نفسِهِ وعن استثمارِ مَوَاهبِهِ وَوَزناتِهِ كلِّها، بحيثُ أنَّ الَّذي يَتسلَّمُ من ربِّهِ وَزناتٍ خمسٍ لا يحسنُ أن يُتاجرَ بها ويَكتفِي بِربحِ وَزنتَين أو ثلاثة بلْ عليهِ الوصُولُ إلى خمسِ وزناتٍ ينتظرُهَا منهُ ربُّهُ كما يُعلِّمُنا الإنجيلُ. وفي تحقيقِ الإنسانِ لِذاتِهِ هناك أيضًا بيئةٌ أخلاقيَّةٌ وروحيَّةٌ تَضمنُ حياةَ الإنسانِ السليمةَ ولا تُحوِّلُهُ إلى مسخِ إنسانٍ، لِذَا وَجبَ عليه أن يَحترمَ هذه البيئةَ الرُّوحيَّةَ أيْ القِيَمَ الإنسانيَّةَ السَّاميةَ ولا يُخالفَ فيها أَوامرَ اللهِ. فَمِن الضَّروريِّ أمامَ هذا الالتزامِ تَكثِيفُ العمل في الجامعةِ على المُقارنةِ بينَ البيئةِ الجيولوجيَّةِ والبيئةِ الرُّوحيَّةِ للإنسانِ لِنَجدَ أنَّ هاتَين البيئتَين تَتَلازمان وتَتَشابهان، بِمَعنَى أنَّ كلَّ مَساسٍ بواحدةٍ منها يُعرِّضُ الإنسانيَّةَ كلَّها للفشلِ وفقدانِ الذَّاتِ.

 

أمَّا الحياةُ الجماعيَّةُ فإنَّ لنا فيها وصيَّةً من اللهِ بأن نَبنِي أُسُسَها ونُرافقَ مَراحلَهَا بِخدمةِ المحبَّةِ والعملِ على تَأمينِ مَصيرٍ فيها يكونُ واحدًا للجميعِ. هنا تَكمنُ التَّحدِّيَّاتُ الكُبرَى لِلوُجُودِ. إذْ أنَّ اللهَ خلقَ التَّنوُّعَ في الحياةِ وأَوصانا بأن نَصُونَهَا على تنوُّعِهَا بِرباطِ التَّوافقِ. فلا الأديانُ تُقسِّمُ النَّاسَ لِتُبعدَ الإنسانَ عن أَخيهِ الَّذي يَعتنقُ دينًا آخرَ، ولا العصبيَّاتُ القَبَليَّةُ تَصلحُ لِصُنعِ أوطانٍ تَصِيرُ في النِّهايةِ مُغلقةً على ذاتِها إغلاقًا خانِقًا. بلْ المطلوبُ هو احترامُ الجميعِ لِلجميعِ والعملُ على إقامةِ المجتمعِ ولو مُتعدِّد الألوانِ والمذاهب. والمُؤسفُ هو أنَّ ما يَجرِي اليومَ في دُنيَا العربِ وفي منطقةِ الشَّرقِ الأوسطِ برمَّتِهِ هو انتكاسٌ للحضارةِ وعَودٌ القَهقَرَى نحوَ عُصُورِ الظَّلامةِ والبدائيَّاتِ الَّتي كان بِتَخطِّيها خلاصٌ منها ودَفعٌ إلى تقدُّمٍ إنسانيٍّ مَرغُوبٍ. إنَّ ما يَسُودُ الشَّرقَ في يومِنَا هو إذن مأساةٌ حضاريَّةٌ كُبرَى قبلَ أن يَكونَ نَكَساتٍ سياسيَّةً. وعلى الجامعاتِ في هذه الظرُوفِ أن تَتعاونَ كلُّها لِترسمَ خطَّ بيانٍ للشُّعُوبِ من حَولِها كي تَسيرَ قُدُمًا نَحوَ الإقرارِ بالآخر والمُواطنةِ معهُ في المُساوَاةِ الَّتي أَمرَ بها اللهُ عندما خَلقَ النَّاسَ من طِينَةٍ واحدةٍ وعلى صُورتِهِ الواحدةِ الَّتي لا صُورةَ لهُ إِلاَّها.

 

انطلاقًا من هذا الواجبِ المَفرُوضِ علينا تِجاهَ منطقتِنا وبِلادِنا كم يَجدرُ بنا أيُّها الأحبَّاءُ أن نُثمِّنَ اختبارَ وَطنِنَا العزيزِ لُبنانَ بالعيشِ المُشتركِ وَبِحوارِ الحياةِ فيه بَينَ مُؤمنينَ من أديانٍ عدَّةٍ سَكَنُوا أَرضَهُ وهم يَتَقاسمُونَ عليها وفي ما بينَهُم الرِّزقَ الحلالَ. لهذا فإنَّ ما يَجرِي من لا مُبالاةٍ بِمَصائر الشُّعُوبِ المُحيطةِ وبِمَصيرِنَا بالذَّاتِ لا مُبرِّرَ له على الإطلاقِ بلْ هو مُعاكِسٌ للحكمةِ الَّتي بُنِيَت عليها حَياتُنَا أو يجبُ أن تُبنَى. فهل يُعقَلُ أن نَستبدلَ الحكمةَ بالجَهلِ واللاَّمسؤوليَّةِ كما الكثيرونَ هُم فاعِلُون؟ إنَّ مطلبَ فخامة رئيس الجمهوريَّة العماد ميشال عون حفظَهُ اللهُ والَّذي نُحيِّيه اليومَ بِخاصَّةٍ في مناسبةِ مُرُورِ سنةٍ على عَهدِهِ مليئةٍ بالإنجازاتِ والمواعيد، ودَعوَتِهِ في جمعيَّةِ الأممِ المتّحدة بأن يكونَ لُبنانُ مركزًا عالميًّا لِحِوارِ الحضاراتِ لا يَقبَلان أصلاً طالما أنَّ لُبنانَ لم يدخل بعدُ إلى مَرحلَةِ الاستقرارِ السِّياسيِّ والاجتماعيِّ والأمنيِّ على غيرِ صعيدٍ، وطالما أنَّ أَبناءَهُ الأعزَّاءَ لا يُقدِّمونَ للعالَمِ مظهرًا واضحًا يُوحِي بالثِّقةِ الَّتي تَدفعُ الأممَ إلى تسلِيمهم مثل هذه المسؤوليَّةِ الجسيمةِ. فهلاَّ حرَّكَت الجامعاتُ الرَّأيَ العامَّ بهذا الاتِّجاهِ، وهلاَّ عُقدَت النَّدواتُ الَّتي تُوضِحُ للنَّاسِ الطريقَ القويمَ المُؤدِّي إلى المستقبلِ الَّذي يَستحقُّون؟ هذا هو ما سمَّيناهُ فرحَ التَّحقيقِ لِلدَّعوةِ الإنسانيَّةِ النَّبيلةِ والمُتلازم مع فرحِ الحقيقةِ والمعرفةِ الكُبرَى. إنَّ فرحَ المعرفةِ يُقرِّبُنا من حقيقةِ اللهِ، وفرحَ التَّحقيقِ يَجعلُنا خلاَّقينَ على صُورتِهِ ومِثَالِهِ، والفرَحَان يشحذَانِ فينا الحرِّيَّةَ والتَّضامنَ واحترامَ القِيَمِ الَّتي تُقوِّي إرادتَنا وتَدفعُها إلى المُصالحةِ مع فرحِ الحياةِ.

 

فالمجالاتُ واسعةٌ أمامَكُم أيُّها الأعزَّاء على مستَوَى هذَين المَوقفَين معًا، والجامعةُ بِتصرُّفِكُم لكي تكونَ لكُم الخادمةَ الأمينةَ والمُعلِّمةَ الصَّادقةَ. فاللهَ نسألُ أن تكونَ هذه السَّنةُ من حَياتِكُم ومن حياةِ لُبنانَ سنةَ نقلةٍ نَوعيَّةٍ في مجتمَعِنَا اللبنانيِّ والعربيِّ من التَّخاصُمِ بين جدرانِ البقاءِ إلى التَّفاعُلِ والتَّعانقِ في سَاحاتِ الخلقِ والعطاءِ. فعلى هذا الرَّجاءِ المُحيِي نَدعُو لكُم بالتَّوفيقِ مُستَمطِرِينَ عليكُم جميعًا، رئيسًا ونوَّابَ رئيسٍ وعُمداءَ ومعلِّمين وإداريِّين وطلاَّبًا أَحبَّاءَ فيضًا سخيًّا من نِعَمِ اللهِ وبَرَكاتِهِ. آمين.